إن هذه الشبهة -الفرار من تعدد القدماء- التي بنى عليها المعتزلة إنكارهم للصفات هي شبهة باطلة، لكنهم أسسوا عليها ما لا يحصى من الضلالات.
ومن أسهل الردود عليهم أن يقال: هذا محمد (أو زيد أو عمرو)، ويمكن أن نصفه بأنه: طويل، عليم، سميع، جواد، كريم، شجاع، وغير ذلك من الصفات، فهل تتعدد ذاته إذا وصفناه بكل هذه الأوصاف، أم تبقى ذاتاً واحدة؟ فإذا قالوا: بل تبقى ذاتاً واحدة، قلنا: فكذلك الله سبحانه وتعالى الذي له المثل الأعلى في السماوات والأرض واحد، وأسماؤه وصفاته متعددة.
لكن قد أعمى الله بصيرتهم، وظنوا أن الاسم له وجود حقيقي في الخارج، فظنوا أنهم -إذا أثبتوا أسماء كثيرة- يثبتون ذوات كثيرة، وهذا من نتاج العقول السقيمة السخيفة، التي تأثرت بـفلاسفة اليونان، فقد كان أفلاطون -صاحب نظرية المثل- يرى أن كل شيء في الوجود الذهني له مثاله في الوجود الخارجي، فأخذ المعتزلة ذلك، وبنوا عليه أنه يجب أن ننفي عنه سبحانه وتعالى الأسماء والصفات، بمعنى: أن الأسماء تبقى حروفها لكن حقائقها ومعانيها تنفى، وتكون مرادفات لاسمه الذي هو الله -تعالى الله عما يصفون- وهذا هو الأصل الأول عندهم، وهو التوحيد.
وأصول المعتزلة الخمسة التي ذكرها المصنف رحمه الله قد أجمعت عليها المعتزلة مع أن بينهم خلافات كثيرة، حتى إن بعضهم يكفر بعضاً، فـعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء كل منهما يرد على الآخر، وأبو الهذيل العلاف يكفر النظام، والنظام يكفر العلاف وهما أكبر من أسس هذا المذهب؛ فمع ذلك أجمعوا على هذه الأصول الخمسة في الجملة، ومما أجمعوا عليه تبعاً لأصل التوحيد القول بخلق القرآن، والقول بنفي رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وأخذ هذا المذهب عنهم الشيعة والخوارج؛ فـالشيعة والخوارج إلى هذا اليوم يقولون: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، ويقولون: من قال: (إن الله يرى في الآخرة) فهو كافر، ويؤولون ويحرفون الآيات في الرؤية، وقد سبق مبحث الرؤية بالتفصيل والآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة عليها.
قال المصنف: "فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض الذي هو الموصوف والصفة عندهم" والجسم أو الجوهر: هو الشيء الذي يبقى بذاته، أو يمكن أن يتصور بذاته مستقلاً عن صفاته، والأعراض: هي الصفات، فمثلاً: السارية ذاتها هو الجرم القائم المنتصب، والأعراض كونها طويلة أو قصيرة، حمراء أو زرقاء، وربما تغير لونها، لكن الذات لا تتغير، فالمتغير هو الأعراض، وهي الصفات، والذات هي الجسم، لكنهم أخذوا اصطلاحات الفلاسفة اليونان؛ فبدلاً من أن يقولوا: الموصوف، قالوا: الجسم أو الجوهر، وبدلاً من أن يقولوا: الصفات، قالوا: الأعراض، وفي الواقع لا يمكن أن توجد ذات ليس لها صفات، فلا توجد ذات خارج الذهن ليس لها صفات، فهذا مستحيل؛ فلا توجد ذات إلا ولها صفات.
ولذلك هم أنفسهم لما قالوا: ماهية الشيء هي عبارة عن ذاته متميزة عن العرضيات، لم يستطيعوا أن يأتوا بمثال على ذلك؛ حتى قالوا: إن معرفة الماهيات إما متعسر أو متعذر -هذه عباراتهم- والمعنى: من الصعب جداً أن تعرف ماهية الشيء، ولهذا إذا أرادوا أن ينزهوا الله -بزعمهم- قالوا: ننزه الله عن الأعراض، ويعنون بذلك نفي صفات الله سبحانه وتعالى.
قال: "واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم" معنى هذا الكلام: أن الموجودات عندهم على نوعين: حادث وقديم، فالقديم الذي ليس له أول، والحادث هو المخلوق الذي وجد بعد أن لم يكن، وقالوا: مما يعرف به الحادث من القديم أن الحادث هو الذي تحل به الأعراض؛ أما القديم فهو الذي لا تحل به الأعراض؛ ولهذا قالوا: إذا قلنا: إن الله سبحانه وتعالى حي أو كريم أو رحيم أو ما أشبه ذلك، أو قلنا: إنه يغضب ويرضى وينزل، فقد قلنا بحلول الحوادث بالله، وما تحل به الحوادث فهو حادث، ولذلك قالوا: ننفي جميع هذه الصفات حتى وإن جاءت في القرآن والسنة، فهم ينفونها حتى يسلم عندهم هذا الأصل.
وانظر إلى تفاهة معتقدهم ومبدأ قولهم في توحيد الله سبحانه وتعالى، فهذا مما أجمعت عليه المعتزلة، وجعلوه الأصل الأول من أصول الدين، وسموه التوحيد، وهو أن تنفى صفات الله سبحانه وتعالى على هذا الأساس.